حبس المدين

حبس المدين

مرحلة ما بعد "العبودية المالية"

بقلم : أ/ عبدالعزيز الجيماز

أولاً: شايلوك.. تاجر البندقية

كانت مُجتَمَعَاتُ العصور الوسطى تَمنَحُ العديد من الحقوق لصاحب الدين على المدين، تَصِلُ تلك الحقوق إلى درجة الاستعباد أو التنكيل كنوعٍ من الضغط على "إنسانية" المدين حتى يُسدِّدُ ما عليه من ديون.

وفي البندقية، تلك المدينة الإيطالية الجميلة، والتي يَعتَبِرُهَا البعض عاصمة الشعر والفن والحب، كان تاجرٌ اسمه "شايلوك" يُقرِضُ الناس بالفائدة، وإذا لم يمتثلوا لمطالباته بتسديد ما عليهم من ديون؛ فإنه يقوم تجاههم بممارسات غير إنسانية فظيعة، ومنها على سبيل المثال الاقتطاع من لحمهم بما يعادل قيمة الديون.

 وقد حوَّل الكاتب "ويليام شكسبير" قصة شايلوك هذه إلى مسرحية "أيقونية" تَحمِلُ معاني الظلم والطغيان من صاحب المال الذي يستغلُّ حاجة الناس؛ بما تتضمَّنُهُ هذه القصة فيما بين سُطُورِهَا من دلالاتٍ على انعدامٍ في العدالة الاجتماعية، انعَكَسَت على شكل قانونٍ غير إنسانيٍّ في النهاية.

بناءً عليه، تَظهَرُ حقوق الدائِن المُبَالَغِ فيها على شكل تَعَدٍّ صَارِخٍ، ليس فقط على حقوق المدين، بل حتى على إنسَانِيَّتِهِ.

وبعد تشكُّل العالم الجديد في ظلِّ الأمم المتحدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بغرض حماية الإنسان واعتباره غايةً بِحَدِّ ذاته، وبعد إطلاق العهد الدولي لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات والمواثيق الدولية التي جعلت من حقوق الإنسان منطلقاً لتنظيم المجتمعات الإنسانية؛ بعد كل تلك المراحل تشكلت نظرة الإنسان في عصر "الحداثة"، تلك النظرة التي مَنَحَت الإنسان قيمةً لِذَاتِهِ قبل أنْ تَحمِي حقوقه المالية.

لكن هذه النظرة المُتَدَرِّجَة في تنظيم العلاقة بين الدائن "الغني الظالم" والمدين "الفقير المظلوم"، لم تكنْ نظرةً واقعيةً على الإطلاق؛ فهذه النظرة لا تُعبِّرُ عمَّا يَجرِي على أرض الواقع من تعاملاتٍ تجاريةٍ ومدنيةٍ يَثِقُ فيها صاحب المال بالمدين، الذي كثيراً ما يَحتَالُ على الدائن أو يخون أمانَتَهُ أو على الأقل يُمَاطِلِهُ في السداد ضمن دروبٍ من التهرُّب تشبه المتاهات.

أي أنَّ النظرة المُطلَقَة تجاه المدين بأنه مظلومٌ هي نظرةٌ غير واقعيةٍ أصلاً؛ فالمدين هو من يَظلِمُ الدائن إذا كان قَادِرَاً على السداد، وعلى الرغم من ذلك يُمَاطِلُ الدائن رغبةً بِدَفعِهِ إلى التنازل عن حَقِّهِ، وحتى وإن كان المدين غيرَ قادرٍ على تسديد الدين فإنه هو من استحوَذَ على مال غيره وامتَنَعَ عن إرجاعه؛ فالمدين قد يكون هو الظالم في نهاية هذه القصة الطويلة التي أَخَذَت أبعاداً ثقافيةً، وحضاريةً، وإنسانيةً طويلةً حتى تَشَكَّلَت القوانين المعاصرة كما نراها اليوم.

ثانياً: حقوق الدائن على المدين.. حقوقٌ آخذةٌ بالتآكل

في البداية علينا التمييز بين مجموعةٍ متنوعةٍ من الوقائع التي تقيم الحق على المدين:

(1) ارتكاب المدين لوصفٍ جزائيٍّ على شكل جريمة أموال: مثل قيام الفاعل بالسرقة أو الاحتيال أو إساءة الائتمان، ففي مثل هذه الحالات يكون خصم الفاعل-المدين هو النيابة العامة التي تَسعَى إلى إيقاع الحبس كعقوبةٍ جزائيةٍ، ويكون للمدعي الشخصي-الدائن الحقَّ بالمُطَالَبَة بمبلغ الدين والتعويض.

وإذا كانت السرقة والاحتيال مُمَيَّزَةً بِشَكلٍ وَاضِحٍ عن الدين العادي، فإنَّ الأمر يُصبِحُ أكثر دقةً بخصوص إساءة الائتمان؛ فالفرق بين الدين المدني وجريمة إساءة الائتمان أنَّ الإساءة الإجرامية مَحَلُّهَا تسليم المال على سبيل الحيازة المؤقَّتة كما يَحدُثُ في عقود الوكالة، لكن المدين يُبَدِّدُ المال أو يَستَحوِذُ عليه لِنَفسِهِ، أمَّا الدين المدني فهو يَستَنِدُ على نقلٍ كاملٍ للحيازة بالاستناد على عقد القرض مثلاً، أي أنَّ الدائن يَمنَحُ المدين كامل الحيازة حتى يستعمل المال إلى أن يَحِينَ موعد السداد، بينما خائن الأمانة يستلم المال على سبيل الوكالة بغرضٍ مُحدَّدٍ لكنَّه يَستَعمِلُهَا لحسابه، ففي مثل هذه الحالات المُحدَّدة يكون المدين فَاعِلاً لجريمةٍ، وليس مديناً فقط.

(2) امتناع المدين عن سداد الدين: وهي واقعةٌ مدنيةٌ لا يَنطَبِقُ عليها أيُّ وصفٍ جزائيٍّ، تتمثَّل بقيام حقٍّ مُحَقَّقِ الوجود وحالِّ الأداء على المدين لا يَقُومُ بِأَدائِهِ للدائن، دون أن يَكونَ في الوقائع أية سرقةٍ أو احتيالٍ أو أية عقود حيازةٍ جزئيةٍ للمال كما في إساءة ائتمان، بل تكون الواقعة هي مجرد نقل المال من الدائن للمدين على سبيل القرض مثلاً.

ففي هذه الحالة لا يكون للنيابة العامة أيُّ دخلٍ في موضوع الحق، وتَبقَى العلاقة بين الدائن والمدين شخصيةً مَحَلُّها المحاكم المدنية، ويُفتَرَضُ في هذه الحالة أنَّ أقصَى ما يمكن أن يَتَعَرَّض له المدين هو المُطَالَبَة المدنية بمبلغ الدين، ثم الحجز على أمواله والتنفيذ عليها، لكن آثار النظرة القديمة للمدين كان لها رأيٌ آخرٌ.

ثالثاً: تهديد المدين.. الحبس بمفهومٍ تهديدي استثنائي، وليس عقابي

رغم أنَّ المدين-المُقتَرِض في عقد القرض مثلاً، يَحصَلُ على حيازة المال حيازةً كَامِلَةً من البنك الدائن-المُقرِض، إلاَّ أنَّ البنك يَستَطِيعُ بعد الحصول على حكمٍ نهائيٍّ أو باتٍّ أو أمرِ أداءٍ أنْ يُنَفِّذَ على أموال المدين، فإذا لم تَكْفِ تلك الأموال، كان للبنك أن يَستَصدِرَ من المحكمة الكلية أمراً بالحبس "التهديدي" للمدين.

كان ذلك تحت سلطة المادة 292 من المرسوم بقانون رقم 38-1980 الخاص بالمرافعات المدنية والتجارية.

 وعليه، فإنَّ هذه القاعدة كانت تُعتَبَرُ استثنائيةً بكلِّ المقاييس القانونية؛ والسبب أنَّ المدين لم يَرتَكِبْ أيَّ فِعلٍ يُبَرِّرُ حَبسَهُ، فهو قد حَصَلَ على حيازة المال بشكلٍ مشروعٍ، وبصورةٍ كاملةٍ من البنك المُقرِض، فالمدين هنا لم يَستَحوِذْ على مال الغير دون رِضَاهُ، ولم يَصدُرْ ضِدَّهُ أيَّ حُكمٍ جزائيٍّ بأية جريمةٍ حتى يَستَحِقَّ الحبس.

لكن في هذه الحالة الاستثنائية، قَرَّرَ المشرع أن يَمنَحَ قضاء التنفيذ سلطة تهديد المدين بعد طلب البنك الدائن حتى يُسَارِعَ إلى تسديد مبلغ الدين، وكانت صيغة التهديد المُعتَمَدَةُ قانوناً هي الحبس.

لكن ما يَحصَلُ للمدين في الحقيقة ليس تهديداً، وإنما تفعيلٌ لعقوبة حبسٍ لا يجوز تنفيذها وفق القواعد العامة إلاَّ بعد صدور حكمٍ قضائيٍّ جزائيٍّ نهائيٍّ أو باتٍّ؛ فالحبس ليس بـ: "تهديدٍ" من حيث المنطق القانوني السليم، بل هو "عقابٌ".

فهل كان المشرع يَمتَلِكُ سلطة العقاب على المدين بغير فعلٍ إجراميٍّ؟ ألا تَنتَمِي فكرة حبس المدين بسبب عدم تسديد الدين للفلسفة القديمة بالتنكيل بالمدين حتى يُسَدِّدَ المبالغ التي عليه؟

الواقع أنَّ المشرع كانت له وجهة نظر لتبرير موقفه.

رابعاً: قواعد حبس المدين الملغاة.. عصرٌ تشريعيٌّ سابقٌ

عند الخوض في أسباب تشريع قاعدة حبس المدين؛ سَنَجِدُ أنَّ المشرع حينها قد ساقَ العديد من الأفكار الإيجابية التي تَنتُجُ عن تلك القاعدة.

فعلى الرغم من أنَّ المادة 292 مرافعات قد صَدَرَت في بداية الثمانينيات، أي بعد قليلٍ من الفورة النفطية، وارتفاع مستوى معيشة الشعب الكويتي، وانتشار حالةٍ من الرخاء ضِمنَ حتى الطبقة المتوسِّطة، رغم ذلك إلاَّ أنَّ هذا الرخاء أدَّى إلى نظر الطبقة الوسطة إلى أبعَدِ من إمكانيَّاتِهَا، ودَفَعَهَا إلى طلب التمويل بغرض المزيد من الترفيه والرغد.

وهكذا، طَلَبَ صاحب السيارة اليابانية قرضاً للحصول على سيارة ألمانيةٍ أو أمريكيةٍ، وطلب صاحب المنزل العربي البسيط قَرضَاً حتى يُعِيدَ بناء منزلِهِ على الشكل الأوروبي.

أي أنَّ انتشار الرفاهية لم يؤدِّ إلى حدوث حالةٍ من الرضا والاكتفاء، بل إلى المزيد من طلب مستويات أعلى من الرفاهية.

وفي ذلك الزمن كانت البنوك تَسعَى هي الأخرى إلى إيجاد منتجاتٍ تمويليةٍ جديدةٍ، فَقَامَت بدورٍ جوهريٍّ على صعيد إغراء المستهلكين من أصحاب الدخل المحدود الذين يَنتَمُونَ إلى الطبقة الوسطى، وحَاوَلَت تَورِيطَهَم بِشَتَّى طرق التسويق السحرية، التي ما إنْ يُوَقِّعَ العميل عليها حتى يُصبِحَ أسيراً للديون والفوائد.

فالبنوك المُقرِضَة بغزارة كانت تَعلَمُ بأنَّ الناس غير القَادِرِين على استكمال أقساط القرض قد يَقَعُونَ في حالةٍ من العُسرِ بسبب رفاهيةٍ غير ضروريةٍ، ورغم ذلك لَعِبَت بعضٌ من تلك البنوك على وَتَرِ التسويق السحري، وكانت النتيجة هي وقوعُ شريحةٍ واسعةٍ جداً من الناس تحت رحمة مطالبات البنوك.

وما قد زادَ الطِّينَ بِلَّةً، هو أزمة سوق المناخ عام 1982؛ حيث أدَّت المضاربات الوهمية على أسعار الأسهم إلى تذبذب ثم انهيار في القيم السوقية، الأمر الذي جَعَلَ شرائحاً واسعةً من المستثمرين تَخسَرُ سُيُولَتِهَا وتُصبِحُ أسيرةً في حُريتِهَا المالية للبنوك والدائنين.

ذلك الأسر المالي تَبِعَهُ أسرٌ فعليٌّ، حيث قام العديد من البنوك بتفعيل المادة 292 مرافعاتٍ بِغَرَضِ حبس المدينين المعسرين لمدة 6 أشهرٍ.

وعلى الرغم من أنَّ المادة 292 تَشتَرِطُ في صِيغَتِهَا أن يكون المدين قَادِرَاً على الوفاء، إلاَّ أنَّه يبدو أنَّ القضاء قد توسَّع في تطبيق هذه المادة؛ بدليل أنَّ المدين المحبوس لم يعدْ يَمتَلِكُ أية أموالٍ أو أصولٍ ظاهرةٍ إلاَّ وتمَّ الحجز عليها، فكيف يُمكِنُ العِلمَ بِيُسْرِ حالِ المدين بعد إفراغِ جُعبَتِهِ دون دليلٍ ماديٍّ يُثبِتُ تهريب أمواله أو نقلها لملكية أقاربه مثلاً؟ وعليه يبدو أنَّ قضاء التنفيذ قد توسَّع في سلطته بحبس المدين المُمتَنِعِ عن الوفاء.

وفي هذا السياق، فقد دافعت إدارة الفتوى والتشريع بالكويت عن المادة 292 بخصوص حبس المدين؛ وذلك من باب أنَّ تلك المادة قد نصَّت على حبس المدين المُتَعنِّت عن السداد فقط؛ لكن الواقع يقول بأنَّ تطبيق تلك المادة لم يكنْ مَحمِياً بأية ضماناتٍ.

بالتالي، فإنَّ حبس المدين دون وجود ضمانٍ فعليٍّ على يَسَارِهِ وتَعَنُّتِهِ يُخَالِفُ كلاًّ من المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي صَادَقَت عليه دولة الكويت بالقانون 12-1996، ويُخَالِفُ أيضاً المادة 18 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي صادقت عليه الكويت بموجب القانون 84-2013.

خامساً: الخَلطُ بين المدين التجاري والمدني.. إشكاليةٌ منطقيةٌ-قانونيةٌ أخرى

في الواقع، لقد أغفَلَ المشرع في قانون المرافعات أنَّ حبس المدين يجب أن يَأخُذَ بِعَينِ الاعتبار التمييز بين المدين المدني والتجاري.

فالشخص المدني كثيراً ما يَقتَرِضُ الأموال بِمَا يتجاوَزُ قدراته المالية، وكثيراً ما يَتَهَرَّبُ من السداد غير مُبَالِيَاً بِسُمعَتِهِ؛ أمَّا التاجر فهو قصةٌ أخرى.

حيث يَعتَمِدُ التاجر في عَمَلِهِ على الاقتراض تحت مُسَمَّى الائتمان التجاري؛ أي أنَّ التاجر لا يقوم بتشغيل رأسماله الذي يَمتَلِكُهُ فقط، وإلاَّ لَأَصبحت تجارَتُهُ صغيرةً وأصبحت أرباحُهُ لا تَكفِي لِمَعِيشَتِهِ وأصبحَ غير قادرٍ على تقديم أفضَلَ جودةٍ بأفضَلِ سعرٍ؛ لأنَّ التاجر لا يستطيعُ خَفضَ الأسعار في ظلِّ محدودية الكميَّات؛ فكلَّما كانت الكميات المُتَاجَرُ بها ضخمةً كلما تَمَكَّنَ التاجر من تخفيض أربَاحِهِ بالقطعة الواحدة فَيحَصَلُ على ذات الربح من قِطعَتَيْن بعد تخفيض الأسعار على المستهلكين.

وهذا يَعنِي ببساطةٍ أنَّ التجارة تَختَلِفُ جذرياً عن التعاملات المدنية في شِقِّ القروض؛ فالتاجر يَتَعَامَلُ مع الديون التي تُشكِّلُ له تمويلاً ائتمانياً بشكلٍ يوميٍّ وبشكلٍ أكثرَ من طبيعيٍّ في حياتِهِ المهنية.

أمَّا الشخص المدني فالقرض بالنسبة له هو عبارةٌ عن عبءٍ ماليٍّ استثنائيٍّ قد يَقضِي على مَعِيشَتِهِ ومُستَقبَلِهِ.

والأمر الأهمُّ أنَّ التاجر إذا تَعَثَّرَ عن سداد القروض التمويلية التي عليه، فإنه سَيَخسَرُ سُمعَتَهُ وسَتَهتَزُّ قُوَّتُهُ المالية في السوق، وقد لا يستطيعُ تحصيل الائتمان التجاري مرةً أخرى؛ لذا فإنَّ تَعُثُّرَ التاجر عن السداد تتمُّ معالجته عادةً من خلال قانون الإفلاس عبر إعادة هيكلة مؤسَّسته التجارية مالياً وإدارياً أو عبر التسوية الواقية للتاجر من الإفلاس، وإذا كانت التجارة فاشلةً إلى أقصى حدٍّ دون أيِّ أملٍ لاستعادة نَشَاطِهَا ورِبحِيَّتِهَا، وقتها فقط يتمُّ شهر إفلاس التاجر.

أمَّا الشخص المدني البسيط، فلا يَمتَلِكُ كلَّ تلك الوسائل لِمُعَالَجَةِ تَعَثُّرِهِ المالي، حيث سَيَجِدُ نفسَهُ أمام مَنْعٍ من السفر فوراً مع أيِّ دينٍ مُحقَّقِ الوجود وحالِّ الأداء، ثم سَيَطلُبُ الدائن حَبسَهُ بعد استِصدَارِ حكمٍ نهائيٍّ أو باتٍّ بِحَقِّهِ، كلُّ ذلك حتى يُسَدِّدَ الدين بأية طريقةٍ، دون مَنحِ المدين المدنيِّ سوى فرصةً يَائِسَةً لتقسيط الدين، لن تُغَيِّرَ من الأمر شيئاً؛ وعليه، قد يُفَكِّرُ المدين جدياً بالتهرُّب من السداد؛ لأنه لا يَخشَى على سُمعَتِهِ الائتمانية مثل التاجر؛ ولأنه ليس لَدِيهِ حلٌّ في مُوَاجَهَةِ طُغيَانِ الدائن وسُلطَتِهِ المباشرة لِحَبسِهِ.

سادساً: إلغاء التهديد بالحبس.. وتَرْكِ المدين دون ضغطٍ حقيقيٍّ

كان لمظالم مجتمع المدينين أثرٌ كبيرٌ على وجدان المشرع، فمنذ عام 1980 حتى 2020 فقد عَانَى مِدِينُو القروض من خطر الحبس بشكلٍ غير منطقيٍّ؛ الأمر الذي قد جَعَلَ من المادة 292 مرافعات بعيدةً عن العدالة في إِتَاحَتِهَا حبس المدين 6 أشهرٍ كاملةٍ تهديداً له حتى يُسَدِّدَ دَينَهُ؛ فِيمَا تكون النتيجة الواقعية هي الانهيار التام للمدين، فإذا كانت لديه بعضٌ من الأعمال أو السمعة التجارية والاستثمارية؛ فإنَّها سَتَنعَدِمُ بعد حَبسِهِ، وسَيُصبِحُ مُعسِرَاً تماماً عن السداد؛ فلا مالاً يَمتَلِكُ ولا تعاملاتٍ ولا ثقةٍ لمُمَوِّلٍ فيه.

فماذا استَفَادَ الدائن من طَلَبِهِ حبسَ المدين؟ في الواقع لم يستفدْ سوى الانتقامَ منه، فماذا سَيَجنِي الدائن من حبسِ مدينٍ ذي ثوبٍ مُرَقَّعٍ؟

الواقع، يقولُ بأنَّ حبسَ المدين بِغَيرِ ضماناتٍ للتأكُّد من يَسَارِهِ؛ كانت قاعدةً استثنائيةً من زمن تاجر البندقية "شايلوك"، فهي كانت تُشكِّلُ تهديداً غير مُجديٍ، وكانت تُمثِّلُ انتقاماً غير إنسانيٍّ من المدين.

وعليه، فقد قرَّر المشرع إلغاء هذه القاعدة بشكلٍ نهائيٍّ مع صدور قانون الإفلاس رقم 71-2020؛ وتَرَكَ مسألة التعامل مع المدين لإجراءات التنفيذ والحجز ومنع السفر دون المَسَاسِ بحرية المدين إطلاقاً.

في المقابل، فإنَّ مُنَاصِرِي إجراء حبس المدين -وبشكلٍ خاصٍّ من البنوك الدائنة- باتوا يَقرَعُونَ طُبُولَ الحرب مع المدينين بلا سلاحٍ، فلا أَمَلاً يُرتَجَى لَدَيهِم من محاولات حبس المدين أو إِلبَاسِهِ ثوبَ الوصف الإجرامي بغير حقٍّ.

فالدائنون المُحتَرِفُون هؤلاء يقولون بانعدام الردع المالي تجاه المدينين الذين باتوا يَقتَرِضُونَ بشكلٍ جَائِرٍ دون خوفٍ من الحبس، فأكثر ما سَيَتَعَرَّضون إليه هو الحجز على الأموال الضامنة للقرض، فيقول الدائنون حينئذٍ: "فليكن"، بينما يَخسَرُ البنك الدائن وقتاً وأموالاً حتى يَحصَلَ على مبلغ القرض بعد بيع الضمانات، بما يَجعَلُ أرباحَهُ من عملية القرض تتضاءل أو حتى تَضمَحِلَّ تماماً.

لذا، فإنَّ البنوك وغيرهم من الدائنين في مجتمع الإقراض باتوا في حاجةِ حمايةٍ حقيقيةٍ، خاصَّة بعد انتشار ثقافة الاقتراض والامتناع عن السداد في ظلِّ انتهاء الخوف من الحبس التهديدي.

وعليه، فقد انتَشَرَت أخبارٌ عن إصدار مجلس الوزراء الكويتي لمشروع تعديلٍ قانونيٍّ يَهدِفُ إلى إعادة إجراءِ حبس المدين لكن بشكلٍ يَضمَنُ التمييز بين المدين المُعسِرِ، وبين المدين المتعنِّت الذي يَستَحِقُّ حقَّاً الحبس التهديديَّ حتى يُسَارِعَ إلى تسديدِ ما عليه من ديونٍ أو حتى يَرتَدِعَ المدين من مُجَرَّدِ وجود إجراءِ الحبس فلا يَمتَنِعُ عن السداد أساساً.

وفي النهاية نَرَى أنَّ من أهمِّ الحلول لهذه الإشكالية؛ هي ما يلي:

(1) إخضاع المدين المدني -الذي لم ينشأْ دينه بسبب عمل تجاري أو مشروع تجاري- بخصوص حبس المدين، للإجراءات التالية:

·      إنشاء منصة ائتمان مدنية رسمية للتعرُّض لحالة المدين المالية، وتاريخ اقتراضه، وما إذا كان قد امتنع سابقاً عن تسديد ديونه.

·      إقرار تجميد جميع الخدمات الحكومية للمدين التي كان يَتَمَتَّعُ بها إلكترونياً وتقليدياً حتى يُسَارِعَ إلى تسديد ديونه، ذلك باستثناء الخدمات الصحية.

·      إقرار الإقامة الجبرية للمدين بعد امتِنَاعِهِ عن السداد، بعد تقديم أجلٍ كافٍ له، وعروضٍ لتقسيط الدين؛ لكن بشرط أن تتمَّ الإقامة الجبرية بأسلوبٍ أكثرُ حضاريةً من زَجِّهِ في المعتقلات؛ كأن يتمَّ فَرضُ الإقامة الجبرية في المنزل مع سوارٍ إلكترونيٍّ.

·      وضعُ معاييرٍ، ومؤشراتٍ واقعية تقديريةٍ ومرنةٍ لقاضي التنفيذ؛ بحيث تسمح له بتمييز المدين المعسر عن المتهرِّب؛ ومنها:

Ø   امتناع المدين عن تقديم كشف بأمواله خارج الكويت.

Ø   وجود نقل لأموال المدين من ذمته إلى ذممٍ أخرى ذات علاقة به بعد إبرامه لعقود القرض.

Ø   استمرار حياة المدين الفارهة حتى بعد قيام حالة إعساره وامتِنَاعِهِ عن السداد، دون تقديمه لأيِّ تبريرٍ عن مَصدَرِ أمواله.

·      التفريق بين مجتمع الائتمان التجاري والقروض المدنية من حيث طبيعة الدين وإجراءات التحصيل.

·      تنظيم عمليات شراء الديون، وتسهيل تأسيس مشاريعٍ ائتمانيةٍ تقوم على شراء الدين مع توفير الحلول للمدين على السداد.

(2) أمَّا بالنسبة للمدين التاجر، فَيَخضَعُ لقواعد قانون الإفلاس رقم 71-2020 بخصوص البحث والتعامل بوقَائِعِ تَعَثُّرِهِ عن السداد وإعادة هيكلة مؤسَّسته، أمَّا إذا وَصَلَ التعثُّر عن السداد مع التاجر إلى درجة شَهرِ الإفلاس، وظُهُورِ عدم كفاية التفليسة لسداد الديون، وأنَّ الدائنون لن يَحصَلُوا على كامل أموَالِهِم، عندها فقط يتمُّ تطبيق الإجراءات السابقة التي ذكرناها.


Share this post
Tags
Archive
الصندوق الأسود للشركات المساهمة